موقعان بارزان للعرض المركزي في العاصمة الفرنسية هما: متحف الفن المعاصر لمدينة باريس (المحاذي لبرج إيفيل)، ومتحف مونمارتر الذي يحفظ ذاكرة ازدهار محترفات هذا الحي من خلال رواد في مستوى بـــيـــكاسو ومــوديــلياني وسوتـــيــن وســـواهــــم، والموقعان يحتفلان بذكرى معلم التعبيرية الفرنسية برنار بوفيه، شاهد الأحزان التي خلفتها الحرب العالمية الثانية.
هو من مواليد فرنسا عام 1928 وتوفي منتحراً عام 1999، بعد معاناة سنوات من العزلة ومرض الباركينسون الذي منعه من الرسم، وكان الرسم عزاءه الوحيد، فقرر أن يجترع السم ويغيب عن العالم وآثامه وجحوده، ونكرانه موهبة أحد أكبر فناني القرن العشرين وأصالتهم.
المعرض الأول الراهن وهو الأهم، بخاصة بسبب موقعه المركزي، بعنوان: معرض استعادي: «برنار بوفيه الملاك المصلوب» مستمراً حتى أواخر شهر شباط (فبراير)، ويتمثل بمئة لوحة عملاقة منتخبة بعناية من ميراثه الخصب الذي يبلغ ثمانية آلاف لوحة مع الرسوم والألوان المائية...
المعرض الثاني تحية إلى محترفه الأول في حي مونمارتر بعنوان «برنار بوفيهه الحميم» مستمراً حتى أواخر آذار (مارس).
درس خلال الحرب العالمية الثانية في «بوزار باريس» ( معهد الفنون الجميلة – قسم التصوير ) وتخرّج بتفوّق. بدأت شهرته في الصعود كأبرز فناني التعبيرية الفرنسية التي تشهد أحزان مخلفات الحرب، ولوحظ أن شهرته أصبحت طاغية في الخارج بخاصة في اليابان (اختص بمعارضه الشمولية متحف برنارنومي في سوروغادير منذ عام 1973)، وكان يقيم كل عام معرضاً شخصياً في غاليري ميشيل غارنييه في باريس، وكان يدعمه ويتحمس لأسلوبه الكاتب لويس آراغون وموريس درون الذي أصبح وزيراً. قدّمه التاجر غارنييه منذ عام 1958 في أول معرض استعادي (موازياً لمعرض شاربنتييه). وظلّ أميناً على صلته معه طوال حياته، على رغم أن برنار بوفيه كان متعدد الحضور عالمياً في العرض، بلغت لوحاته أرقاماً فلكية. وكان حريصاً على علاقاته الاجتماعية وصلاته الحميمة بالمثقفين، تجلى ذلك بإهدائه الفاتيكان مجموعة «أشواك السيد المسيح»، لعلها من أعمق مراحله التي طبعت أسلوبه ببصمة متميزة إلى حد الأسلبة، متمثلاً التحريفات الشكلية التراجيدية الحادة المستقاة من إكليل أشواك يسوع وهيكله المصلوب.
كما دعمه الرئيس جورج بومبيدو وزوجته، فمثّل فرنسا في بينالي فينيسيا، وانتقلت هذة الحماسة إلى جان كوكتو. نتبيّن غناه الفاحش في الخمسينات من قصره في إكس أن بروفانس وصور الخدم والحشم التي تطوقه، والحفلات الباذخة الاجتماعية.
تخفي هذه النجاحات الظاهرة إخفاقات فناننا في الحفاظ على مجده، يستعيد المعرض الأول قول بوفيه الذي يلخص مأساة عزلته: «تقعون في خطأ عندما تظنّون أنني مشهور. قد يكون اسمي كذلك، لكن الناس لا تعرف أعمالي، فأنا المصور المجهول في هذا العصر». وعلى رغم الشهادات الإيجابية من بعض كبار الفنانين: ابتداءً ببيكاسو وانتهاء بكوونينغ، فإن النّقاد يُجمعون، خلال أربعة عقود ابتداءً من 1956، على بداية انحداره وعلى أن أسلوبه أصبح استهلاكياً منمطاً، يعتمدون في هذا الانتقاد على آلية تنوعّ موضوعاته: من مشاهد الصلب إلى الطبيعة الصامتة، ومن الحشرات إلى فظائع الحرب الثانية، ومن البورتريه والأوتوبورتريه إلى المناظر الطبيعية والمعمارية ( بما فيها القرى والمصانع )، إلى صور الغوريللا والبلاجات السياحية العامة ومهرج السيرك (الكلون) أو البلياتشو. لعل أعمق تجاربه تتمثل في مجموعة صور وجهه عن المرآة، ثم آخر لوحة رسمها قبل انتحاره (لا تقدر بثمن) بعنوان: الموت عام 1999، ألوان زيتية على قماش بقياس 195X114 سم، محفوظة في المتحف الوطني في فرانكفورت في ألمانيا. تمثل هيكلاً عظمياً حياً يحمل منجل الطاعون وعلى كتفه يحط البوم.
كان على رأس من يحتقر فنه الروائي والناقد أندريه مالرو، وكان لسلطة رأيه الأثر البليغ، بخاصة خلال فترة تسلّمه مسؤولية وزارة الثقافة في عهد ديغول.
في الوقت الذي كان مالرو يدعم بيكاسو ثم جياكوميتي بلا حدود فينعته بالبركان والبقية بلهيب النار، كان يتّهم برنار بوفيهه بأن أسلوبه مثير للاكتئاب. لعل المشكلة تقع في حساسية النقد الوافد من حقل الأدب إضافة الى صعوبة أساليب الرواد. لدينا أبلغ مثل على ذلك: العلاقة السلبية بين إميل زولا وبول سيزان.
This article has been published at alhayat.com. Unauthorised replication is not allowed.